رسائل إلى سوريا الثورة- دروس من ربيع العرب المتعثر، نحو نصر دائم

لم يطلب مني أي مواطن سوري أن أنقل صوته أو أكون المتحدث باسم أمته جمعاء. المسألة برمتها تتعلق بأننا نشهد منعطفات تاريخية جليلة، زاخرة بالمعاني العميقة والواضحة، وأردت أن أجسدها في هذا السياق الصحفي الأدبي، راجيًا أن يجد فيها العرب والسوريون على حد سواء صدى لهواجسهم، تطلعاتهم، وأحلامهم الكامنة.
أولًا: نداءات السوريين إلى الشعوب العربية
لم يمر أي شعب، عربيًا كان أو غير عربي، تجرع مرارة الاستبداد، بما قاساه شعبنا من ألوان العذاب. لقد هوجمنا بالقنابل العنقودية والبراميل المتفجرة، فقدنا مئات الآلاف من الأرواح، وتشردنا بالملايين في شتى بقاع الأرض، وشهدنا ولادة أجيال من الأطفال وهم قابعون خلف القضبان.
أبلغ دليل على حجم فجيعتنا يتمثل في قصة تلك السيدة العفيفة الشريفة، التي زُجّ بها في غياهب السجون وهي فتاة عذراء في ريعان شبابها، لتخرج بعد ثلاثة عشر عامًا وقد أنجبت أطفالًا لا تعرف لهم أبًا.. ورغم كل هذا، لم ننحنِ، لم نستسلم، ولم تفارقنا جذوة الأمل.
وها نحن اليوم نستأنف ثورتنا الغراء، جوهرة الربيع العربي التي توهم المتوحشون بقدرتهم على وأدها إلى الأبد. لسنا هنا لنفرض وصايتنا عليكم، أو لنلقي المواعظ، ولكن ثوراتنا مصيرها واحد، والجهات التي سعت لإخمادها في الماضي هي نفسها، ومستقبلنا متشابك. فإلامَ الانتظار لاستكمال ما لم ينجز، لتحقيق الغايات المنشودة، حتى تنعم الأجيال العربية القادمة بمستقبل مشرق؟
إلى الطغاة قاطبة
إن التركيبة الثلاثية للحكم الاستبدادي، والتي تتألف من (عنف الأجهزة القمعية، وفساد المقربين، والتضليل الإعلامي الممنهج)، هي الوصفة التي تفنن فيها سفاح دمشق أيما تفنن، ممعنًا في استخدام العنف والبربرية والوحشية والسادية، بهدف ترويع المجتمع وإخضاعه.
ولكننا مع ذلك، حطمنا أصنامه، وتجولنا في أرجاء قصره، وأجبرناه على الفرار مذعورًا مستنجدًا بأسياده.
إن أقصى درجات العنف لا تفعل سوى تأخير النهاية المشؤومة للاستبداد، لذا عليكم بدلًا من الإنكار والهروب إلى الأمام، أن تكبحوا جماح الأجهزة القمعية، وتطلقوا سراح السجناء السياسيين، وتسعوا إلى مصالحة حقيقية مع شعوبكم، وتقبلوا بالإصلاحات الموجعة، وتستعدوا لرحيل منظم وسلمي يجنب مجتمعاتكم كوارث أنتم في غنى عنها.
إلى مناصري الممانعة والمقاومة
لقد جحدتم علينا الحق في الحرية والكرامة، متذرعين بأن الدكتاتورية السورية حالة استثنائية. وزعمتم أن ثورتنا المجيدة في عام 2011 كانت مؤامرة كونية تستهدف ضرب محور المقاومة والممانعة والنضال ضد الإمبريالية والصهيونية.
والآن، بغض النظر عن الثمن الفادح الذي دفعه السوريون نتيجة لحكم الأسد الذي لا تبالون به قيد أنملة. والآن، وقد اتضح للعيان أن بطل الممانعة قد قتل الآلاف من الفلسطينيين، ومئات الآلاف من السوريين، دون أن يطلق رصاصة واحدة على إسرائيل. والآن، وقد شهدتم بأم أعينكم أنه لم يحرك ساكنًا لنصرة غزة وهي تتعرض للإبادة.
والآن، وقد رأيتم كيف غدر حتى بحليفه حزب الله، ولم ينبس ببنت شفة للدفاع عنه. والآن، وقد فرّ كالجبان من ميدان المعركة، تاركًا وراءه شبيحته ليواجهوا مصيرهم. والآن، وقد تجندت إسرائيل لاحتلال المناطق التي كان حارسها الأمين مكلفًا بحمايتها. فماذا تقولون الآن؟ هل ستدعون أننا قاصرون عن فهم السياسة، وأن كل هذه التحركات هي مؤامرة تركية صهيونية أمريكية مريخية زئبقية تهدف إلى التخلص من المقاوم الأكبر الذي كان يحتفظ بحق الرد، وتحرير فلسطين في الوقت المناسب، وأننا شعب جاحد ناكر للجميل، لا نستحق أن يحكمنا حافظ الثاني؟
إلى القوى الإقليمية
لقد اعتدتم التباحث حول الموائد وسوريا هي الطبق الرئيسي على قائمة طعامكم. عشية سقوط الطاغية، كنتم تقررون مصيرنا في غياب أي ممثل سوري. ولكن يبدو أننا فاجأناكم جميعًا بسرعة تحركنا وثورة شعبنا.
وما زلتم في بداية سلسلة المفاجآت. لقد خدعتكم لحظات الضعف التي نمر بها، وتناسيتم من نكون على مر التاريخ، والمكانة التي سنحتلها عندما ننتهي من ثوراتنا الداخلية، وإعادة ترتيب أوضاعنا، فتذكروا الخاصية الكبرى للقوة، التي لا تؤمنون إلا بها، وهي أن ميزانها لا يثبت أبدًا على حال.
ثانيًا: رسائل العرب إلى السوريين
كم نعاني من الألم والحزن والأسى لما قاسيتموه من قتل وتهجير وتعذيب. وكم نشعر بالخزي والعار، نحن الرجال جميعًا، لما لحق بنسائكم الطاهرات اللواتي تعرضن لأبشع صنوف التنكيل والتعذيب في سجون الطاغية. نقبل أياديهن وأقدامهن، ونعتذر إليهن، ونطلب منهن العفو والصفح.
كم نخجل من حكوماتنا التي أغلقت أبواب بلداننا في وجوهكم، أنتم أكرم وأجود شعوبنا في استقبال الغرباء. وكم نعتز ونفتخر بانتصاركم، وكم نحبكم. ولكننا في الوقت ذاته، نخشى عليكم من تجدد الكابوس في صورة أخرى.
إن خشيتنا هذه، وتآمر القوى الإقليمية عليكم، هي التي تدفعنا إلى تقديم هذه النصائح، تجنبًا للأخطاء التي ارتكبناها عن حسن نية بعد انطلاق ثورات الربيع، ودفعنا ثمنها باهظًا، ولا نريد لكم أن تدفعوه مرة أخرى.
لتحقيق النصر على جميع المتربصين بثورتكم العظيمة، استثمروا الأخطاء التي وقعنا فيها، وتعلموا منها، لتسريع وتيرة النصر، ولتكونوا الشرارة التي ستشعل من جديد اللهب الذي سيحرق أنظمة الفساد والقمع والتضليل في وطننا العربي المنكوب.
أخطاء ثورتي تونس والسودان
إنها قاعدة راسخة في عالم السياسة تكاد تكون بمثابة القانون الذي يحكم حركة الشمس والقمر، ويمكن صياغتها على النحو التالي: كلما طالت المرحلة الانتقالية، من لحظة انتصار الثورة إلى تثبيت النظام السياسي الجديد، وأيًا كانت الذرائع والحجج، كلما أتيحت الفرصة لقوى الثورة المضادة لإعادة تنظيم صفوفها.
وكلما تفاقم الوضع الاقتصادي، وازدادت معاناة الناس، وتعاظم الإحباط، وتلاشت الآمال في الثورة، ضعفت حظوظ الثورة في التمكن والاستقرار. وهذا يعني أن الخيار يكمن بين مصلحة السياسيين في إضاعة الوقت في الصراعات والصفقات، ومصلحة الوطن في تثبيت الاستقرار بأسرع ما يمكن.
أعترف بأنني شعرت بالفزع عندما سمعت من الإخوة السوريين من يتحدث عن مرحلة انتقالية مدتها ثمانية عشر شهرًا. وكنت قد نبهت الإخوة السودانيين بعد نهاية حكم البشير إلى خطورة المرحلة الانتقالية الطويلة، وقد وقع ما كنت أخشاه. لذا، رجاءً إخوتنا، دستور توافقي وانتخابات رئاسية وتشريعية وإقليمية وحكومة كفاءات سياسية تقنية لتحقيق الاستقرار الكفيل بتنشيط العجلة الاقتصادية بأسرع ما يمكن، وإلا فإنكم ستقدمون سوريا مجددًا على قائمة طعام القوى الإقليمية.
خطأ الثورة التونسية
نعم وألف نعم لكل مبادرات التهدئة والتطمين لكل مكونات الشعب السوري، وخاصة إخوتنا العلويين، وتهانينا الحارة لما أبدته قوات الثورة من حرص على عدم وقوع أي انتقام. كل هذا عمل مشرف ونبيل ومطمئن، ولكن إياكم ومتلازمة "بوس خوك" التي انتهجناها في تونس؛ أي طي صفحة الإجرام في حق شعبنا، وخاصة التعذيب بحجة المحافظة على الوحدة الوطنية.
لقد كان هذا خطأ فادحًا أدى تحت اسم العدالة الانتقالية (التي أعترف بأنني كنت أول مسؤول عن إنشائها وعملها) إلى إفلات المجرمين من العقاب وانخراطهم في تدمير الثورة، وإلى عدم تعويض الضحايا، وأخيرًا إلى انتهاء رئيسة مؤسسة العدالة الانتقالية في السجن بعد انتصار الثورة المضادة والانقلاب على الدستور والشرعية.
ليكن شعاركم "لا عدالة انتقامية ولا عدالة انتقالية.. العدالة وبس"؛ أي عدالة تشمل رؤوس النظام وكبار المسؤولين عن القمع والسجن واغتصاب الحرائر، وألا تكون كمحاكم المهداوي في العراق والعشماوي في مصر؛ أي تمثيليات سخيفة وحبل الجلاد جاهز قبل الحكم. يجب أن تكون محاكمات عادلة شفافة بحضور مراقبين دوليين موثقة بالحجج والبراهين، وتأخذ كل الوقت الضروري. هكذا لن يتم فقط توثيق التاريخ وإنصاف الضحايا وإنما بناء أولى أسس دولة القانون.
خطأ الثورة الليبية
لقد تركت الثورة نفسها تحت رحمة قوى عسكرية متصارعة وحد بينها هدف الإطاحة بالدكتاتور، وفرق بينها تباين المطامح السياسية والشخصية، فانتهى الأمر بتقسيم فعلي للبلاد حسب مناطق نفوذ هذه القوة أو تلك. وها هي ليبيا الحبيبة مقسمة فعليًا إلى دولتين على الأقل.
إن ذلك ما يجب تفاديه بكل وسائل الدبلوماسية والتفاوض والتنازل، ولكن يجب عدم رفض استعمال القوة لفرض سلطة عسكرية واحدة، لأن كل تساهل في مبدأ وحدة القيادة العسكرية يعني تعبيد الطريق للحرب الأهلية والفوضى المدمرة، وعودة التدخل الخارجي بكل وقاحة.
أخيرًا وليس آخرًا ليسمح لي برسالة خاصة إلى الجيل الجديد من القادة العرب عمومًا والسوريين خصوصًا:
حتى لا تتواصل ولا تتكرر المآسي التي عرفتها شعوبنا، ثمة ثورة ذهنية يجب أن تحصل داخل العقل السياسي العربي مستقبلًا. يكفي ما أضعنا من زمن التاريخ، ويكفي ما دفعت شعوبنا من دماء ودموع ثمنًا لخيارات سياسية خاطئة، وأيديولوجيات غبية وشخصيات مريضة.
لقد تجاوزت الأحداث والتجارب التقسيمات والثنائيات التي عشنا عليها عقودًا: رجعي/ تقدمي، قومي/ انفصالي، إسلامي/ علماني، فالخط الفاصل اليوم هو بين الاستبداد والديمقراطية ولا شيء آخر. أي بين المستبدين أكانوا علمانيين أو إسلاميين، وبين الديمقراطيين لا يهم أن يكونوا علمانيين أو إسلاميين.
إن الديمقراطية التي يجب أن تحكم الوطن العربي ليست نسخة طبق الأصل من الديمقراطية الغربية. بل هي ديمقراطية سيادية، غير تابعة للغرب، واجتماعية، فالحرية والعدالة الاجتماعية بالنسبة لها هما وجهان لعملة واحدة، وقائمة على المواطنة، أي مبنية على الحريات الفردية والجماعية والمساواة بين كل مكونات المجتمع، وهو ما يضفي على المواطنة فحواها الحقيقي وليس التضليلي.
أخيرًا لا آخرًا، هي ديمقراطية اتحادية، هدفها الأسمى بناء اتحاد بين الشعوب العربية الحرة ودولها المستقلة، كما نجحت في ذلك أوروبا بعد القضاء على النازية والفاشية والشيوعية.
يتمثل البعد الأعمق في تخلي العقل السياسي العربي عن السم الزعاف الذي يمثله البحث عن الرجل القوي، أي الرجل العنيف، والحزب القوي والأيديولوجيا التي لا يشوبها نقص. فكل هذه الأوهام هي سبب خراب دولنا وشعوبنا.
إننا لن نتحرر ولن نحقق شيئًا ولن نستعيد مكانتنا بين الأمم إلا عندما يصبح بديهيًا لكل عربي، أن قوة الشعوب تكمن في قوة المبادئ والقوانين والمؤسسات الديمقراطية التي تستخدم الأشخاص الأكفاء، لا التي يستولي عليها ويستخدمها الأشخاص الخبثاء.
ويوم تصبح هذه البديهيات التي علمتنا إياها التجربة، الزاد الفكري المشترك لكل التيارات السياسية، أيًا كانت خياراتها التكتيكية، فإن الحلقة المفرغة البائسة التي ندور فيها منذ قرن ستكسر، وسنكون فعلًا قد سلكنا طريقًا قويمًا سيقودنا إلى تحقيق أحلامنا.
ولا بد لليل أن ينجلي